تهدّد حياة المدنيين.. الأمم المتحدة تتهم أوكرانيا باستخدام ألغام مضادّة للأفراد
تهدّد حياة المدنيين.. الأمم المتحدة تتهم أوكرانيا باستخدام ألغام مضادّة للأفراد
تحوّلت الألغام المضادّة للأفراد، التي طالما سعى المجتمع الدولي إلى حظرها وتجريم استخدامها، إلى شبح يعود من جديد ليطارد حياة المدنيين في مناطق النزاع، ويعيد إلى الأذهان صور الأطراف المبتورة والقرى المدمّرة والحقول التي تحوّلت إلى مصائد موت.
وبينما كان العالم يتقدّم بخطوات بطيئة نحو نزع هذا الخطر الصامت، جاءت تطورات عام 2025 لتكشف تراجعاً خطيراً يهدد أسس القانون الدولي الإنساني، ويضع أرواح الملايين في مهبّ الاحتمالات القاتلة.
وأفادَ تقريرٌ حديث لمعهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح لعام 2025 بأن أوكرانيا لا تزال تستخدم ألغاماً مضادّة للأفراد، رغم كونها من الأسلحة المحرّمة دولياً بموجب اتفاقيات صادقت عليها سابقاً، في خطوة اعتُبرت انتهاكاً صريحاً للمعايير الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، بحسب ما ذكرت وكالة "نوفوستي"، اليوم الاثنين.
تهديد للجهود الدولية
أوضحَ معهد الأمم المتحدة، وفقاً لما ورد في تقرير "مراقب الألغام" (Landmine Monitor 2025) الذي عُرض في جنيف، أن عودة استخدام هذه الألغام يشكّل تهديداً مباشراً للجهود العالمية الرامية إلى الحد من المعاناة الإنسانية الناتجة عنها، ويقوّض الثقة في التزام الدول الموقّعة بالمواثيق والاتفاقيات الدولية.
ونبّهَ التقرير إلى أن هذه التطورات لا تقتصر على خرق قانوني فحسب، بل تنطوي على تبعات إنسانية كارثية، إذ إن الألغام المضادّة للأفراد لا تميّز بين مقاتل ومدني، ولا بين طفل وامرأة، بل تبقى كامنة في الأرض سنوات طويلة، تحصد الأرواح بعد انتهاء الحروب.
وحذّرَ المسؤول الدولي موزير-بوانغسوفان، خلال العرض الرسمي للتقرير، من خطورة الخطوات التي اتخذتها بعض الدول، مشيراً إلى أن أوكرانيا أعلنت نيتها تعليق تنفيذ اتفاقية حظر الألغام المضادّة للأفراد، بل وشرعت فعلياً في استخدامها وتوسيع مخزونها منها، وهي مخزونات تُزوَّد بها، بحسب قوله، من الولايات المتحدة، مع احتمال أن تكون بدأت أيضاً في إنتاجها محلياً.
وأشارَ إلى أن هذه الممارسات تمثّل سابقة خطيرة قد تدفع دولاً أخرى إلى التراجع عن التزاماتها، في لحظة عالمية شديدة الحساسية، تعاني فيها البشرية من تصاعد النزاعات المسلحة والتوترات الجيوسياسية، ما يجعل المدنيين الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للخطر.
ولفَتَ إلى أن انهيار منظومة الردع الأخلاقي والقانوني في ما يتعلق بالألغام سيؤدي إلى كارثة طويلة الأمد، إذ إن آثار هذه الأسلحة لا تتوقف عند نهاية الحرب، بل تستمر لعقود في قتل وتشويه الأبرياء وتعطيل التنمية وإعاقة عودة الحياة الطبيعية.
اتفاقية تاريخية تُنتهك
صادقتْ أوكرانيا عام 2005 على "اتفاقية أوتاوا"، وهي معاهدة دولية تحظر استخدام الألغام المضادّة للأفراد وتخزينها وإنتاجها ونقلها، وتُلزم الدول الموقعة بتدمير مخزوناتها منها بشكل كامل.
وكانت الاتفاقية قد وُقّعت في 3 ديسمبر 1997، ودخلت حيّز التنفيذ في 1 مارس 1999، وانضمّت إليها حتى اليوم 163 دولة.
وأُشيدَ بهذه الاتفاقية على نطاق واسع باعتبارها أحد أهم إنجازات القانون الدولي الإنساني، وقد أسهمت في تقليص استخدام الألغام في عدد من مناطق النزاع حول العالم ودفعت بعشرات الدول إلى إزالة ملايين الألغام من أراضيها، ما أنقذ آلاف الأرواح وأعاد الأمل لمجتمعات بأكملها.
لكن تصاعد النزاعات الجديدة، وخاصة في أوروبا الشرقية، أعاد خلط الأوراق، وفتح الباب أمام تراجعات خطيرة تهدد بتقويض هذا الإنجاز التاريخي.
انسحاب يثير الذعر
وقّعَ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في يوليو 2025 مرسوماً رسمياً بالانسحاب من اتفاقية أوتاوا، وهو القرار الذي أحدث صدمة واسعة في الأوساط الدولية والحقوقية، ودفع الأمم المتحدة إلى التعبير عن "قلقها البالغ" حيال تداعيات هذا المسار.
وأعقبَ هذا القرار إعلان عدة دول أخرى انسحابها من الاتفاقية نفسها، من بينها دول البلطيق الثلاث: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، إضافة إلى بولندا وفنلندا، ما ينذر بعودة عصر تتراجع فيه الاتفاقيات أمام الحسابات العسكرية الضيقة.
ويُنظر إلى هذا التوجّه على أنه تحوّل خطير في مفهوم الأمن الدولي، حيث باتت بعض الدول ترى في الألغام وسيلة "دفاعية مشروعة"، متجاهلةً الثمن الإنساني الباهظ الذي تدفعه الشعوب، خاصة الأطفال والنساء والمزارعين والسكان الريفيين.
ضحايا بلا صوت
تنفجرُ الألغام اليوم ليس فقط في التربة، بل في مستقبل المجتمعات التي تحرم من الزراعة والتعليم والأمان، إذ تتحوّل الطرق إلى مناطق محظورة، والحقول إلى مصائد، واللعب إلى مغامرة موت يومية بالنسبة للأطفال.
ويُتوقّع في حال استمرار هذا النهج أن ترتفع أعداد الضحايا بشكل كبير خلال السنوات المقبلة، وأن تُضاف آلاف الإعاقات الدائمة إلى سجلات الألم الإنساني، في عالم يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما يقف عاجزاً أمام أدوات قتل صامتة.
وتُطرح تساؤلات عميقة حول مسؤولية المجتمع الدولي في هذه اللحظة الحرجة: هل تُترك الاتفاقيات تُنتهك دون محاسبة؟ وهل يُسمح بعودة الألغام إلى خرائط الحروب الحديثة دون ردع صارم؟











